[الشرح]
الحمد لله حق حمده وصلى الله وسلم على نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه وسلم اللهم تسليما مزيدا.
أما بعد:
إن القرآن كلام الله جل وعلا بحروفه ومعانيه، وأنّ الله سبحانه تكلم به، فمنه بدأ فسمعه منه جبريل عليه السلام، وبلغه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
هذه الجملة التي سمعناها الليلة متصلة بالبحث نفسه، قال (فمن سمِعَهُ-يعني القرآن- فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾[المدثر:26]، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾[المدثر:25]، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر.)
هذه الجمل مشتملة على تقرير مسألة عظيمة، وهي أن كلام الله جل وعلا لا يشبه قول البشر، وكيف يشبه قول البشر وهو كلام الباري جل وعلا الذي لا يشبه بصفاته البشر، فالبشر لهم صفاتهم في كلامهم وفي سمعهم وبصرهم وإدراكاتهم وأعضائهم، والله جل وعلا له صفات في كلامه وفي سمعه وبصره وجميع صفاته فلا يشبه في صفاته -التي منها كلامه- لا يشبه صفات البشر.
فمن قال عن القرآن إنه قول بشر، أو إنه مخلوق، أو هو قول جبريل، أو نحو ذلك، وليس بقول الله جل وعلا، أو أنه كلام جبريل وليس بكلام الله جل وعلا فإنّ هذا كافر بالله العظيم؛ لأن من قال إنّ القرآن كلام البشر فإن هذا كفر، كما قال سبحانه ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾[المدثر:25-26] لقول الوليد.
إذا تبين لك ذلكن فإنهم قالوا أيضا -أي المشركون- قالوا: إنما يعلمه بشر. كما قال سبحانه ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾[النحل:103]، فالذين أبوا هداية القرآن وأبوا الإذعان له وصفوا القرآن بصفات:
§ قال بعضهم: هو كِهانة.
§ وقال بعضهم: هو شعر.
§ وقال بعضهم: هو قول بشر.
§ وقال بعضهم: أساطير الأولين.
وكل هذه الأقوال يعلمون أنما هي لتنفير الناس عن قبول هذا القرآن، فلقد تواعد كما هو معلوم في القصة ثلاثة من كفار قريش ألا يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل قبل ذلك وكلهم كان يراد بالقرآن، ذهب أحد هؤلاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام في الليل يسمع قراءته للقرآن، ولما ذهب وجد فلانا وفلانا فإذا بهم ثلاثة يسمعون القرآن لما له من سلطان على نفوسهم، ثم لما رجعوا تقابلوا في الطريق، فتواعدوا ألا يسمعوا مرة أخرى لهذا القرآن؛ لأجل ألا يراهم بعض العامة وبعض الناس فلا يقبل قولهم في رد القرآن، ثم لما جاء من الليلة الثانية اجتمعوا أيضا ثم صارت أيضا ثالثة حتى رأوا أنهم لابد أن يتفارقوا على ذلك، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26)فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا﴾[فصلت:26-27].
كذلك لما أرسل الوليد أو عقبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفاوضه في شأن القرآن وأن يترك هذا الأمر، قال له: يا محمد إن أردت ملكا ملكناك، وإن أردت مالا جمعنا لك من المال ما تكون به أغنى العرب، وإن أردت نساء نظرنا في أجمل نساء العرب فأتينا بهن إليك. فقال عليه الصلاة والسلام له هذا الذي عندك؟ اسمع فتلا عليه صدر سورة فصلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ حم(1)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾[فصلت:1-4] ومر عليه الصلاة والسلام في التلاوة حتى بلغ قوله تعالى ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾[فصلت:13] فالتفت إليه الرجل وقال حسبك الآن، فرجع إلى قومه لما رأوه مقبلا، قالوا لقد أتاكم فلان بوجه غير الوجه الذي ذهب به، فلما حضر، قالوا ما عندك يا فلان؟
فقال: إني سمعت كلاما ليس هو بالشعر، وليس هو بالكهانة، وليس هو بالكلام الذي نألف، إن له لحلاوة، وإن عليه لطُلاوة -أو طَلاوة أو طِلاوة مثلثة- وإن أسفله لمورق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.
فتبين بذلك أن أولئك الذين قالوا هو كهانة هو شعر وهو قول البشر أنهم هم الذين ردوا على أنفسهم ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[النمل:14].
هذه المسألة يمكن أن نمر عليها فيما ذكر بشيء من التقرير العام كما فعل الشارح؛ لكن هذه المسألة متصلة ببحث عظيم، وهو بحث دلائل النبوة؛ لأن كون القرآن لا يشبه كلام البشر ولا يشبه قول البشر هو المسألة الموسومة عند العلماء بمسألة إعجاز القرآن وأن القرآن معجز، وهذه ولاشك مسألة مهمة قلّ بل أن تتعرض لها كتب العقائد، ولها صلة ببحث دلائل النبوة فهي في التوحيد؛ لأن صلتها تارة بدلائل النبوة من كون القرآن معجزا ودليلا على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه منزل من عند الله، ومن جهة أخرى لها صلة بمبحث كلام الله جل وعلا وهو أن القرآن لا يشبه كلام البشر وأن كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر.
فلا بأس إذن أن نقرر هذه المسألة وهي المسألة الموسومة بإعجاز القرآن؛ لأجل ندرة الكلام عليها في كتب العقائد مفصلة، ونذكر منها بعض ما يناسب هذه الدروس المختصرة.