[الشرح]
هذا الحديث، حديث ابن عمر ووصية النبي له، به حياة القلوب؛ لأن به الابتعاد عن الاغترار بهذه الدنيا بشباب المرء، أو بصحته، أو بعمره، أو بما حوله.
قال ابن عمر رضي الله عنهما (أخذ رسول الله بمنكبي) وهذا يدل على الاهتمام بابن عمر، وكان إذ ذاك شابا صغيرا في العشر الثانية من عمره، قال أخذ بمنكبي، فقال (كنْ في الدنيا كأنكَ غَرِيب, أو عابرُ سَبيل) وهذا من أعظم الوصية المطابقة للواقع لو عقل الناس، فإن الإنسان ابتدأ حياته في الجنة ونزل إلى هذه الأرض ابتلاء، فهو فيها غريب، أو عابر سبيل، فزيارته للدنيا؛ زيارة الجنس البشري بأجمعه للدنيا هذه زيارة غريب، وإلا فإن مكان آدم ومن تبعه على إيمانه وتقواه وتوحيد الله جل وعلا والإخلاص له، فالمنزل هو الجنة، وإنما أُخرج آدم من الجنة ابتلاء وجزاء على معصيته، وهذا إذا تأملتَ وجدت أن المرء المسلم حقيق أن يوطّن نفسه، وأن يربيها على أن منزله الجنة، وليس هي هذه الدنيا، وهو في هذه الدنيا في دار ابتلاء، وإنما هو غريب، أو عابر سبيل كما قال المصطفى.
وما أحسن استشهاد ابن القيم رحمه الله تعالى إذْ ذكر أن حنين المسلم للجنة، وأن حبَّه للجنة ورغبه فيها هو بسبب أنها موطنه الأول، وأنه هو الآن سَبِي للعدو، ورحل عن أوطانه بسبب سبي إبليس لأبينا آدم، وهل ترى أن يرجع إلى داره الأولى أم لا؛ ولهذا ما أحسن قول الشاعر:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى مـا الحـبّ إلا للحبيب الأول
وهو الله جلا جلاله،
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينــه أبـدا لأول مــنزل
وهي الجنة، وهذا إنما يخلص له قلب المنيبين إلى الله جل وعلا دائما، المخبتين له، الذين تعلقت قلوبهم بالله حبا ورغبا ورهبا وطاعة، وتعلقت قلوبهم بدار الكرامة بالجنة، ويعملون لها وكأنها بين أعينهم، فهم في الدنيا كأنهم غرباء، أو كأنهم عابروا سبيل، ومن كان على هذه الحال غريب، أو عابر سبيل، فإنه لا يأنس بمُقامه؛ لأن الغريب لا يأنس إلا بين أهله، وعابر السبيل دائما على عجل من أمره، وهذه حقيقة الدنيا، فإنه لو عاش ابن آدم ما عاش، عاش نوح ألف سنة منها تسعمائة وخمسون سنة في قومه)فَلَبِثَ [فِيهِمْ] ([1]) أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا([العنكبوت:14] ثم مضت وانتهت، وعاش أقوام مئات السنين ومضوا وانتهوا، وعاش قوم مائة سنة وثمانين، وأربعين وخمسين.
([1])لم يقرأها الشيخ.